الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال ابن عاشور:والفاء في قوله: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم} فاء الفصيحة في قوله: {وما علّمتم من الجوارح} إن جعلت (ما) من قوله: {وما علّمتم} موصولة، فإن جعلتها شرطية فالفاء رابطة للجواب.وحرف (من) في قوله: {ممّا أمسكن عليكم} للتبعيض، وهذا تبعيض شائع الاستعمال في كلام العرب عند ذكر المتناوَلات، كقوله: {كلوا من ثمره}.وليس المقصود النهي عن أكل جميع ما يصيده الصائد، ولا أنّ ذلك احتراس عن أكل الريش، والعظم، والجلد، والقرون؛ لأنّ ذلك كلّه لا يتوهّمه السامع حتّى يحترس منه.وحرف (على) في قوله: {ممّا أمسكن عليكم} بمعنى لام التعليل، كما تقول: سجن على الاعتداء، وضُرب الصبيّ على الكذب، وقول علقمة بن شيبان:
أي نطاعن على حقائقنا: أي لحماية الحقيقة، ومن هذا الباب قوله تعالى: {أمسك عليك زوجك} [الأحزاب: 37]، وقوله صلى الله عليه وسلم {أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك}.ومعنى الآية إباحة أكل ما صاده الجوارح: من كلاب، وفهود، وسباع طير: كالبزاة، والصقور، إذا كانت معلّمة وأمسكت بعد إرسال الصائد.وهذا مقدار اتّفق علماء الأمّة عليه وإنَّما اختلفُوا في تحقّق هذه القيود.فأمَّا شرط التعليم فاتّفقوا على أنّه إذا أُشلي، فانْشلى، فاشتدّ وراء الصيد، وإذا دُعي فأقبل، وإذا زجر فانزجر، وإذا جاء بالصيد إلى ربّه، أنّ هذا معلّم.وهذا على مراتب التعلّم.ويكتفي في سباع الطير بما دون ذلك: فيكتفي فيها بأن تؤمر فتطيع.وصفاتُ التعليم راجعة إلى عرف أهل الصيد، وأنَّه صار له معرفة، وبذلك قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي: ولا حاجة إلى ضبط ذلك بمرّتيْن أو ثلاث، خلافًا لأحمد، وأبي يوسف، ومحمد.وأمّا شرط الإمساك لأجل الصائد: فهو يعرف بإمساكها الصيد بعد إشلاء الصائد إيّاها، وهو الإرسال من يده إذا كان مشدودًا، أو أمرُه إيّاها بلفظ اعتدات أن تفهم منه الأمر كقوله: «هذا لَكِ» لأنّ الإرسال يقوم مقام نية الذكاة.ثم الجارح ما دام في استرساله معتبر حتّى يرجع إلى ربّه بالصيد.واختلفوا في أكل الجارح من الصيد قبل الإتيان به إلى ربّه هل يبطل حكم الإمساك على ربّه: فقال جماعة من الصحابة والتابعين: إذا أكل الجارح من الصيد لم تؤكل البقية؛ لأنّه إنَّما أمسك على نفسه، لا على ربّه.وفي هذا المعنى حديث عديّ بن حاتم في الصحيح: أنَّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلب، فقال: «وإذا أكَل فلا تأكل فإنَّما أمسك على نفسه» وبه أخذ الشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وإسحاق.وقال جماعة من الصحابة: إذا أكل الجارح لم يضرّ أكله، ويؤكل ما بقي.وهو قول مالك وأصحابه: لحديث أبي ثَعْلبة الخُشَني، في «كتاب أبي داوود»: أنّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «وإن أكل منه».ورام بعض أصحابنا أن يحتجّ لهذا بقوله تعالى: {ممّا أمسكن عليكم} حيث جاء بمن المفيدة للتبعيض، المؤذنة بأنّه يؤكل إذا بَقي بعضه، وهو دليل واه فقد ذكرنا آنفًا أنَّ (مِن) تدخل على الاسم في مِثل هذا وليس المقصود التَّبعيض، والكلب أو الجارح، إذا أشلاه القنّاص فانشلى، وجاء بالصيد إلى ربّه.فهو قد أمسكه عليه وإن كان قد أكل منه، فقد يأكل لفرط جوع أو نسيان.ونحا بعضهم في هذا إلى تحقيق أنّ أكل الجارح من الصيد هل يقدح في تعليمه، والصواب أنّ ذلك لا يقدح في تعليمه، إذا كانت أفعاله جارية على وفق أفعال الصيد، وإنما هذا من الفلتة أو من التهوّر.ومَال جماعة إلى الترخيص في ذلك في سباع الطير خاصّة، لأنّها لا تفقه من التعليم مَا يَفقه الكلب، وروي هذا عن ابن عباس، وحمّاد، والنخعي، وأبي حنيفة، وأبي ثور.وقد نشأ عن شرط تحقّق إمساكه على صاحبه مسألة لو أمسك الكلب أو الجارح صيدًا لم يره صاحبه وتركه ورجع دونه، ثم وجد الصائد بعد ذلك صيدًا في الجهة التي كان يجوسها الجارح أو عرف أثر كلبه فيه؛ فعن مالك: لا يؤكل، وعن بعض أصحابه: يؤكل.وأمَّا إذا وجد الصائد سهمه في مقاتل الصيد فإنَّه يؤكل لا محالة.وأحسب أنّ قوله تعالى: {مما أمسكن عليكم} احتراز عن أن يجد أحد صيدًا لم يصده هو، ولا رأى الجارح حين أمسكه، لأنّ ذلك قد يكون موته على غير المعتاد فلا يكون ذكاة، وأنَّه لا يحرم على من لم يتصدّ للصيد أن يأكل صيدًا رأى كلب غيره حين صاده إذا لم يجد الصائد قريبًا، أو ابْتاعه من صائده، أو استعطاه إيَّاه. اهـ. .قال الفخر: نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي، أن ما صاده غير الكلاب فلم يدرك ذكاته لم يجز أكله، وتمسكوا بقوله تعالى: {مُكَلّبِينَ} قَالُواْ: لأن التخصيص يدل على كون هذا الحكم مخصوصًا به، وزعم الجمهور أن قوله: {وما علمتم من الجوارح} يدخل فيه كل ما يمكن الاصطياد به، كالفهد والسباع من الطير: مثل الشاهين والباشق والعقاب، قال الليث: سئل مجاهد عن الصقر والبازي والعقاب والفهد وما يصطاد به من السباع، فقال: هذه كلها جوارح.وأجابوا عن التمسك بقوله تعالى: {مُكَلّبِينَ} من وجوه: الأول: أن المكلب هو مؤدب الجوارح ومعلمها أن تصطاد لصاحبها، وإنما اشتق هذا الاسم من الكلب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فاشتق منه هذا اللفظ لكثرته في جنسه.الثاني: أن كل سبع فإنه يسمى كلبًا، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «اللّهم سلط عليه كلبًا من كلابك فأكله الأسد».الثالث: أنه مأخوذ من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال فلان: كلب بكذا إذا كان حريصًا عليه.والرابع: هب أن المذكور في هذه الآية إباحة الصيد بالكلب، لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره، بدليل أن الاصطياد بالرمي ووضع الشبكة جائز، وهو غير مذكور في الآية والله أعلم. اهـ..قال الماوردي: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} يعني بالطيبات الحلال، وإنما سمي الحلال طيبًا، وإن لم يكن مستلذًا تشبيهًا بما يستلذ. {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} يعني وصيد ما علمتم من الجوارح، وهي الكواسب من سباع البهائم والطير، سميت جوارح لكسب أهلها بها من قولهم: فلان جارحة أهله أي كاسبهم، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:أي ما اكتسب.وفي قوله: {مُكَلِّبِينَ} ثلاثة أقاويل.أحدها: يعني من الكلاب دون غيرها، وأنه لا يحل إلا صيد الكلاب وحدها، وهذا قول ابن عمر، والضحاك، والسدي.والثاني: أن التكليب من صفات الجوارح من كلب وغيره، ومعناه مُضْرِين على الصيد كما تَضْرِي الكلاب، وهو قول ابن عباس، وعلي بن الحسين، والحسن، ومجاهد.والثالث: أن معنى التكليب من صفات الجارح: التعليم.{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا علَّمَكُمُ اللَّهُ} أى تعلمونهن من طلب الصيد لكم مما علمكم الله من التأديب الذي أدبكم وصفات التعليم التي بيَّن حكمها لكم.فأما صفة التعليم، فهو أن يُشلَى إذا أُشلي، ويجيب إذا دعي ويمسك إذا أخذ.وهل يكون إمساكه عن الأكل شرطًا في صحة التعليم أم لا؟ على ثلاثة أقاويل:أحدها: أنه شرط في كل الجوارح، فإن أكلت لم تؤكل، وهذا قول ابن عباس، وعطاء.والثاني: أنه ليس بشرط في كل الجوارح ويؤكل وإن أكلت، وهذا قول ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وسلمان.والثالث: أنه شرط في جوارح البهائم فلا يؤكل ما أكلت، وليس بشرط في جوارح الطير، فيؤكل وإن أكلت، وهذا قول الشعبي، والنخعي، والسدي. اهـ. .قال الفخر: دلت الآية على أن الاصطياد بالجوارح إنما يحل إذا كانت الجوارح معلمة، لأنه تعالى قال: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} وقال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل» قال الشافعي رحمه الله: والكلب لا يصير معلمًا إلاّ عند أمور، وهي إذا أرسل استرسل، وإذا أخذ حبس ولا يأكل، وإذا دعاه أجابه، وإذا أراده لم يفر منه، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم، ولم يذكر رحمه الله فيه حدًا معينًا، بل قال: أنه متى غلب على الظن أنه تعلم حكم به قال لأن الاسم إذا لم يكن معلومًا من النص أو الإجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله في أظهر الروايات.وقال الحسن البصري رحمه الله: يصير معلمًا بمرة واحدة، وعن أبي حنيفة رحمه الله في رواية أخرى أنه يصير معلمًا بتكرير ذلك مرتين، وهو قول أحمد رحمه الله، وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أنه يصير معلمًا بثلاث مرات. اهـ..فائدة: [الكَلَّاب والمكلِّب]: قال الفخر:الكلاب والمكلب هو الذي يعلم الكلاب الصيد، فمكلب صاحب التكليب كمعلم صاحب التعليم، ومؤدب صاحب التأديب.قال صاحب الكشاف وقرئ مكلبين بالتخفيف، وأفعل وفعل يشتركان كثيرًا. اهـ.وقال الفخر:اعلم أنه إذا كان الكلب معلمًا ثم صاد صيدًا وجرحه وقتله وأدركه الصائد ميتًا فهو حلال، وجرح الجارحة كالذبح، وكذا الحكم في سائر الجوارح المعلمة.وكذا في السهم والرمح، أما إذا صاده الكلب فجثم عليه وقتله بالفم من غير جرح فقال بعضهم: لا يجوز أكله لأنه ميتة.وقال آخرون: يحل لدخوله تحت قوله: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وهذا كله إذا لم يأكل، فإن أكل منه فقد اختلف فيه العلماء، فعند ابن عباس وطاوس والشعبي وعطاء والسدي أنه لا يحل، وهو أظهر أقوال الشافعي، قالوا: لأنه أمسك الصيد على نفسه، والآية دلت على أنه إنما يحل إذا أمسكه على صاحبه، ويدل عليه أيضًا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي ابن حاتم: (إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أدركته ولم يقتل فاذبح واذكر اسم الله عليه وإن أدركته وقد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك وإن وجدته قد أكل فلا تطعم منه شيئًا فإنما أمسك على نفسه وقال سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم إنه يحل وإن أكل وهو القول الثاني للشافعي رحمه الله واختلفوا في البازي إذا أكل فقال قائلون إنه لا فرق بينه وبين الكلب فإن أكل شيئًا من الصيد لم يؤكل ذلك الصيد وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب الفرق أنه يمكن أن يؤدب الكلب على الأكل بالضرب ولا يمكن أن يؤدب البازي على الأكل. اهـ.قال الفخر:قال سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم إنه يحل وإن أكل وهو القول الثاني للشافعي رحمه الله واختلفوا في البازي إذا أكل فقال قائلون إنه لا فرق بينه وبين الكلب فإن أكل شيئًا من الصيد لم يؤكل ذلك الصيد وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب الفرق أنه يمكن أن يؤدب الكلب على الأكل بالضرب ولا يمكن أن يؤدب البازي على الأكل. اهـ.
|